القائمة الرئيسية
EN
حالة الاستثناء في زمن الجائحة، حقوق الانسان بين الواقع والمآل. مقاربة سوسيولوجية
زياد حميدان
03، فبراير 2021

مُنذ اللحظات الأولى لتصنيف منظمة الصحة العالمية وباءَ كورونا (COVID-19) جائحة[1] تجتاح الكوكب بأسره، هيمنت على العالم "بنية جائحة الخوف" بعناصرها التي تربط بينها -على نحو ما -علاقات جدلية. وجد الفرد نفسَه مُحاصَراً وعارياً وسط أضلاع تلك البنية المتخيلة والمادية المكوَّنة من: "الخوف -المرض -الجوع -الموت".  في ظل تلك البنية، عمِلت دولٌ كثيرة بْذريعةِ محاربةِ الوباء على تعليق الكثير من القوانين، وتقييد جزء كبير من الحقوق والحريات. على نحو ما، خضعت أغلبية دول الكوكب لوضعية فريدة اتسمت بهيمنة "السلطة المطلقة " لمؤسسة الدولة.


لتحميل الدراسة: حالة الاستثناء في زمن الجائحة، حقوق الانسان بين الواقع والمآل. مقاربة سوسيولوجية


أدى تزايد انتشار الوباء بين ساكنة دول العالم إلى كشفه عن حقائق لم تكن متوقَّعَة من طرف الدول والمجتمعات، وعلى رأسها الدول ذات النّظُم الرأسمالية النيوليبرالية[2]. حيث بلورت تلك الدول سياسات جديدة لمواجهة أزماتها الداخلية الاقتصادية والصحية والاجتماعية. إذ أعلنت بعض الدول المتقدمة -على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية -عن تحوُّلٍ في سياسة إدارتها للأزمة وفي التزاماتها المتعلقة برعاية صحة مواطنيها وحقوقهم الإنسانية، بسبب كلفة مواجهة الوباء وانعكاساتها الاقتصادية على مصالح الشركات الكبرى.

بث الوباء -بفعل كثير من الفاعليين العِلْمِيِّين والإعلاميين بالخصوص -حالةً من الذعر في العالم بأسره، حولت الأفراد والجماعات والمجتمعات "العقلانية" إلى حشود مصابة بداء الخوف. حيث تخلت تلك الحشود المذعورة بسهولة عن الكثير من قيمها الاخلاقية والإنسانية المعلنة. كما كشفت الجائحة عن وجود خلل بنيوي في مؤسسات الدولة ومكونات بنية المجتمعات النيوليبرالية -التي يُفترَض أنها الأكثر قوة واستقراراً على الكوكب. 

لقد ألقى وباءُ كورونا COVID-19"  " الضوءَ الكافي لاستجلاء حجم وعمق الأزمات البنيوية للنظام النيوليبرالي الذي يهيمن على العالم. وهي أزمات ظلت متخفِّية أو مضمرةً، أو تُدار في الكواليس قبل زمن الوباء. الأمر الذي جعل الكثيرَ من المفكرين يتبنَّون مقولة: " إنّ العالم سيكون عالماً مختلفاً ما بعد الوباء". بل إن كثيرين ذهبوا إلى حد القول إننا نقف أمام "ما بعدية كبرى" جديدة، ستنضَمّ لسلسلة "الما بعديات": ما بعد الحداثة، وما بعد الصناعة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الفلسفة والعلم، وما بعد الدولة والديموقراطية. وأن هذه "الما بعدية" ستفرض نظاماً جديداً بِبُناه الفوقية والتحتية -المادية والأيديولوجية-على مستوى العالم. (الرميمة،2020). 

تطرق الكثير من المتخصصين في حقول معرفية متعددة ومتنوعة لموضوع كورونا (COVID-19). غير أن أي نقاش يطال الجائحة أيّاً يكون نوعه: فلسفياً، فكرياً، سياسياً، ثقافياً، اجتماعياً، اقتصادياً، ليس بمقدوره أنْ يَتَمَوْقَعَ بعيداً عن فلسفة ومبادئ حقوق الإنسان، بلْ لا يُمْكِنُه إلا أن يجد نفسَه في صُلبِها. إذ تعدُّ تلك الحقوق الأرضيةَ الخَلْفِيَة والمدخل الأساسي لأيِّ نقاش دقيق ومعمق، يتناول ما كشفته الجائحة من إشكاليات من حيث ارتباطها بنظام عالمي -تحديداً الغربي الأوربي-يقدم نفسه المدافع عن حقوق الإنسان، والذي طالما رفع شعارات الحقوق الإنسانية ووضع مقاربات جديدة لحقوق الإنسان ومستقبلها وصيانتها.

إنّ حقوق الإنسان[3] من حيث هي حقوق نتمتّع بها جميعنا، لأنّ هذه الحقوق عالميّة متأصلة في جميع البشر، وهي غير قابلة للتصرف فلا تمنحنا أو تسلبنا إيّاها أي دولة أو أي جهة، وهي غير تمييزية ومتساوية بين البشر مهما كانت جنسيتهم، أو نوعهم الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو العرقي أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر. كما أنها متآزرة وغير قابلة للتجزئة، فهي حقوق متنوّعة مترابطة، تتراوح بين الحق الأكثر جوهرية، وهو الحقّ في الحياة، إلى الحقوق التي تجعل الحياة جديرة بأن تُعاش، مثل الحق في الغذاء والتعليم والعمل والصحة والحرية.

لقد كشفت الجائحة أن حقوق الإنسان هي المتضرر الأكبر، بعد أن تنكرت لها نُظم دول كثيرة رغم ما يترتب عليها من التزامات تجاه تلك الحقوق -المنصوص عليها في الاتفاقيات التسعة الأساسية لحقوق الإنسان -وذلك بالاحترام والحماية والوفاء.

 


ما يرد في هذه الدراسة من آراء وافكار تعبر عن وجهة نظر مؤلفها، ولا تعكس او تمثل بالضرورة موقف مؤسسة الحق.


[1] - الجائحــة هي ظهور وانتشار حالات لأمراض معدية في أكثر دول العالم، فيصعب بذلك السيطرة على الحالات المرضية على مستوى العالم، مما يهدد صحة الناس ويتطلب إجراء تدابير طبية سريعة، وخطط عاجلة لإنقاذ البشر. بينما يتحدد الوبــــاء بظهور حالات أمراض معدية في دولة أو مجموعة دول صغيرة متجاورة، وينتشر بصورة سريعة بين الناس. (الجزيرة نت، 2020) 

[2] - الدولة النيوليبرالية: تستخدم النيوليبرالية كوصمة أكثر من كونها مفهوماً ذا جدوى تحليلية. لكننا نعتقد أنه من المفيد تمييز أربعة أوجه للظاهرة النيوليبرالية: النيوليبرالية كنظرية اقتصادية، النيوليبرالية كأيديولوجيا سياسية، النيوليبرالية كبارادايم للسياسات، والنيوليبرالية كمخيلة اجتماعية. (إيفانز وسويل،2016).  وهكذا، تتميز النيوليبرالية عن الليبرالية التي تدافع عن مبدأ: "دعه يعمل.. دعه يمر" في أنها تدعو إلى ضرب من التدخل العمومي، بهدف تحقيق برنامج السوق؛ بل إن على الدولـة نفسـها أن تعيد تنظيم نفسها على نمط تنافسي. ولئن كانت تفوض إلى القطاع الخاص، وإلى السوق، سـلطانها الاقتصادي، فإن الدولـة النيوليبرالية لا تتردد في اللجوء إلى شيء من التوجيه لفرض إصلاحاتهاوالواقع أن الدولة النيوليبرالية، غالباً ما تكون قوية سلطوية تدخلية، وليست "دولة حد أدنى"(فرحات، 2015).

[3] شكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، أولَ وثيقة قانونية تحدد حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالميًا. ولا يزال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يشكل أساس جميع قوانين حقوق الإنسان الدولية. كما توفر موادُّه الثلاثون مبادئَ اتفاقياتِ ومعاهدات حقوق الإنسان الحالية والمستقبلية وغيرها من الصكوك القانونية الأخرى، وركائزها. OHCHR)): https://cutt.us/ZrOnB