طوال العقود الخمسة الماضية ونيّف، فرضت دولة الاحتلال الإسرائيلي نظامًا استعماريًا مركّبًا يهدف إلى إحكام السيطرة على الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أرضه، واستغلال الموارد الطبيعية، وبناء المستوطنات على الأراضي المنهوبة. ولا يزال يكابد الفلسطينيون جرّاء نظام الاحتلال العسكري المركّب على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية في انتهاك واضح لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، في الوقت الذي وقف فيه المجتمع الدولي ساكنًا أمام جرائم الاحتلال وانتهاكاته المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
51 عامًا على الاحتلال الإسرائيلي.
عمدت دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى ترسيخ وجودها في الأرض الفلسطينية المحتلة من خلال بناء المستوطنات وتوسيعها، والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ونهب مواردهم الطبيعية، بل وشرذمة فلسطين وسكانها وتهجيرهم قسرًا عن أراضيهم ومساكنهم.[4] وفي الوقت الذي كابد السكان الشرعيون للبلاد تمييزًا عنصريًا، واستعمارًا استيطانيًا وحشيًا، يحرمهم من أبسط حقوقهم المكفولة في القانون الدولي، يتمتع المستوطنون الإسرائيليون في الأرض المحتلة بامتيازات واسعة توفرها لهم دولة الاحتلال على حساب الحقوق المشروعة للسكان الفلسطينيين في الأرض المحتلة. وعلاوةً على ذلك، عملت دولة الاحتلال طوال السنوات الماضية على تغيير معالم الأرض الفلسطينية المحتلة وتغيير الأمر الواقع، لا سيّما في مدينة القدس، التي يجري العمل على تهويدها وتغيير تركيبتها السكانية طوال الوقت من خلال تكثيف الاستيطان وتهجير أصحاب الحق الشرعيين. ومن أبرز الأمثلة التي تعبّر عن هذه السياسات الاستعمارية هدم المنازل، وقد وثّقت مؤسسة الحق 229 عملية هدم في عام 2017 لوحده، منها 105 عمليات هدم جرت في القدس المحتلة، وقد أدّت مجمل عمليات الهدم في الأرض المحتلة إلى تشريد 746 شخصًا، بينهم 385 طفلًا، فيما يؤشر إلى غياب إرادة دولة الاحتلال في إنهاء احتلالها للأرض المحتلة حتى بعد مضي 51 عامًا.
يحرم الاحتلال الإسرائيلي العسكري الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير،[6] وبناء دولته، والسيادة على أرضه وثرواته الطبيعية بشكلٍ منهجيٍّ، في حين تنهب دولة الاحتلال هذه الثروات وتحرم الفلسطينيين من هذه الحقوق بما يصب في مصلحة مشروعها الاستيطاني واستدامة الاحتلال الإسرائيلي للأرض المحتلة بما يخالف مبدأ الانتفاع وفقًا للقانون الدولي.[7]
فضلًا على ذلك، يُعد الاستعمار الإسرائيلي للأرض الفلسطينية استعمارًا مربحًا من الناحية الاقتصادية، إذ تحصل دولة الاحتلال على ثروات طبيعية من أراضٍ ومياه وثروات معدنية مجانًا جرّاء عمليات النهب المستمرة للأرض الفلسطينية وثرواتها، وهو ما يدعم اقتصادها ويمنحه دفعة قوية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني المحتل. وتتواطأ الكثير من الشركات[8] في صناعة الاحتلال هذه، لأنها تدر عليها أرباحًا هائلة، في ظل غياب المساءلة على انتهاكات القانون الدولي. يشكل انخراط كثير من الشركات التجارية في نشاطات استيطانية أو استعمارية انتهاكًا صارخًا لمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، ويعد جريمة حرب يمكن أن يحاكم عليها في المحكمة الجنائية الدولية.[9]
11 عامًا على حصار قطاع غزة.
بدأت سياسة دولة الاحتلال في الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية منذ تسعينات القرن الماضي، إلا أن شدة الفصل والحصار على قطاع غزة تعزّزت وتكثّفت بشكل غير مسبوق منذ حزيران 2007، بعد فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الديمقراطية. ومنذ 11 عامًا، تفرض دولة الاحتلال حصارًا شديدًا على القطاع، جويًا وبحريًا وبريًا، وتسيطر بشكلٍ كاملٍ على حركة الأفراد والبضائع من وإلى قطاع غزة المحاصر. وتعمّقت أزمة قطاع غزة بسبب الهجمات العسكرية الثلاث التي شنتها دولة الاحتلال على القطاع المحاصر، ما جعل الحياة في قطاع غزة غير قابلة للاستمرار على هذا النحو.
وفي حين تعمل دولة الاحتلال بشكلٍ متعمّد على إعاقة التنمية في القطاع من خلال الحصار الهجمات العسكرية والتحكم في حركة الناس والبضائع، والتضييق اليومي على المزارعين على الحدود والصيادين في البحر، فإنّها تستولي على الثروات الغازية قبالة شواطئ قطاع غزة وتحرمه من التمتع بموارده الطبيعية واستغلالها. وبذلك أدخلت دولة الاحتلال قطاع غزة في أزمة إنسانية كبيرة في مخالفة للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحرّم أي شكل من العقوبات الجماعية، وهي الأزمة الإنسانية التي بات المجتمع الدولي يدرك معالمها جيدًا، وعبّر عنها المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة بقوله إن الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة قد أفضى إلى: "اختناق الاقتصاد الفلسطيني، وتعثر جهود إعادة الإعمار، والعزلة الاجتماعية عن العالم الخارجي، وتأثيرات سلبية وخيمة على المستويات المعيشية والصحية السيئة مسبقًا في القطاع."[10]
وقد أدى الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة إلى تدمير ممنهج للمجتمع الفلسطيني، فقد انهار القطاع الصحي بسبب نقص المعدات والإمدادات الطبية، وتلوثت مياه البحر، ودمر قطاع صيد السمك،[11] ويعاني القطاع من أزمة شديدة في توفر الكهرباء،[12] ويعم القطاع نقص في الغذاء، فضلًا عن إغلاق كافة المعابر المؤدية إلى القطاع بما يجعل إمكانية الخروج منه عملية شبه مستحيلة، علمًا أن نحو 80% من السكان الفلسطينيين في القطاع يعتمدون على المساعدات الإنسانية على الرغم من قدرة القطاع على بناء نوع من الاستقلال الاقتصادي الذاتي لو رفع الحصار الخانق بشكلٍ كامل، وتمكن الفلسطينيون من استغلال مواردهم الطبيعية بشكلٍ طبيعي.
وبينما يواصل الفلسطينيون مطالبتهم بإعمال حقوقهم منذ سنين طويلة، وتعزيز هذه المطالبات منذ 30 آذار 2018، وفي مواجهة ممارسات إطلاق النار وإطلاق النار من جانب إسرائيل، يجب على المجتمع الدولي في نهاية المطاف اتخاذ إجراءات عملية لمساءلة دولة الاحتلال ومحاسبتها على جرائمها المستمرة ضد الشعب الفلسطيني وانتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي.
حان وقت فرض العقوبات.
لقد وقف المجتمع الدولي طوال 51 عامًا مكتوف الأيدي أمام الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية المحتلة، وفي ظل حالة الإفلات من العقاب التي تعيشها دولة الاحتلال نتيجةً لذلك، يتحمل المجتمع الدولي المسؤولية عن استمرار حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير.. وبما أن دولة الاحتلال لا تزال ترتكب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، فإن على كل طرف من الأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة التزام قانوني بمقاضاة الجناة ومحاسبتهم. انطلاقًا من ذلك، يتوجب على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات ملموسة نحو رفع حصار دولة الاحتلال غير القانوني عن قطاع غزة وإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية. وبناءً عليه، تقدم مؤسسة الحق التوصيات التالية:
على دولة الاحتلال باعتبارها السلطة المحتلة:
- رفع الحصار الخانق غير القانوني عن قطاع غزة فورًا، وضمان الحركة من وإلى قطاع غزة دون عوائق، من أجل الحفاظ على تواصل الأراضي الفلسطينية المحتلة وسلامة أراضيها.
- تفكيك جدار الضم والفصل العنصري ونظام الفصل المقترن به، وفقًا للفتوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية عام 2004.
- تفكيك جميع المستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية المحتلة، وفي الجولان السوري المحتل، والكف فورًا عن التوسع الاستيطانية بما في ذلك بناء مستوطنات جديدة وتوسيع المستوطنات القائمة.
- وقف جميع الممارسات الاستعمارية التي تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك في مدينة القدس المحتلة.
- الانسحاب الكامل للوجود العسكري من الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك الضفة الغربية، وقطاع غزة، والجولان السوري المحتل، بما ينهي الاحتلال.
- الالتزام بحق الفلسطينيين غير القابل للتصرف في تقرير المصير، بما في ذلك حقه في السيادة الدائمة على الثروة والموارد الطبيعية وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها في عام 1948 وعام 1967، على النحو المكفول في القانون الدولي.
على الدول الأطراف الثالثة:
- الالتزام بتعهداتها بعدم الاعتراف بأي تغيير تفرضه دولة الاحتلال في الأرض الفلسطينية المحتلة، لا سيّما في مدينة القدس، بما في ذلك ضم القدس وبناء جدار الضم والفصل العنصري.
- التقيد بالتزاماتها كدول أطراف ثالثة بعدم نقل سفاراتها في دولة الاحتلال إلى مدينة القدس، عملًا بقرار مجلس الأمن 478 (1980)، والامتناع عن التعامل مع ممثلي سفارات الولايات المتحدة الأمريكية وغواتيمالا وباراغواي، التي نُقلت بشكل غير قانوني إلى القدس المحتلة.
- الالتزام بعدم الإسهام في إطالة أمد الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر دعم مشروع الاستيطان غير القانوني في الأرض المحتلة، تحديدًا من خلال الشركات التابعة لها والمستفيدة من استغلال دولة الاحتلال للموارد الطبيعية الفلسطينية والاحتلال بشكل عام.
- التعاون من أجل إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وتحقيق حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، بما في ذلك السيادة الدائمة على الثروة والموارد الطبيعية وحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
- اتخاذ تدابير ملموسة لوضع حد لإفلات دولة الاحتلال من العقاب على الانتهاكات الممنهجة وواسعة النطاق للقانون الدولي والتي ترتكبها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك بفرض عقوبات على دولة الاحتلال إلى أن تمتثل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي.
- الدعوة إلى عقد اجتماع للأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقيات جنيف.
- دعم التحقيق الذي ستجريه لجنة التحقيق الدولية التي أنشئت عملًا بقرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 18 أيار 2018، لضمان مساءلة دولة الاحتلال عن الانتهاكات الخطيرة التي ترتكبها بشكلٍ متواصل ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك القتل العمد، الذي ترتكبه دولة الاحتلال بشكلٍ مكثّف في قطاع غزة منذ 30 آذار 2018.
- إحالة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الشركات الخاصة، إلى المحاكمة بما يتماشى مع التزاماتهم كأطراف سامية متعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة بموجب المادة 146.
- دعم الدراسة الأولية الذي يقوم بها حاليا مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، وتشجيع فتح تحقيق كامل للحالة في فلسطين المحتلة على الجرائم المرتكبة منذ 13 حزيران 2014، في مسعىً لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني المحتل.
على المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة القيام بما يلي:
- فرض عقوبات على دولة الاحتلال، واتخاذ إجراءات عاجلة لضمان رفع الحصار غير القانوني عن قطاع غزة بشكلٍ كامل، وإنهاء الاحتلال المتواصل للأرض الفلسطينية منذ 51 عامًا.
- دعوة مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى نشر قاعدة البيانات التي تم إنشاؤها وفقًا لقرار مجلس حقوق الإنسان 31/36 بشأن الشركات المتواطئة في الأنشطة التي حددتها بعثة تقصي الحقائق بشأن المستوطنات الإسرائيلية التي تم إرسالها في عام 2012، وإنهاء تواطؤ بعض الشركات التجارية مع المشروع الاستيطاني في الأرض المحتلة.
- ضمان توقف دولة الاحتلال عن جميع الممارسات الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس المحتلة، عملًا بقرار مجلس الأمن 2334 (2016).
- الرجوع إلى محكمة العدل الدولية لطلب فتوى بشأن شرعية احتلال إسرائيل العسكري للأراضي الفلسطينية والسورية منذ 51 عامًا.
- العمل بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 377 (أ)، والتوافق بشكل جماعي على اتخاذ كافة الوسائل الضرورية لوضع حد لانتهاكات دولة الاحتلال للقانون الدولي، بما في ذلك إغلاقها غير القانوني لقطاع غزة، وإنكارها المنهجي لإعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، كما هو منصوص عليه في القانون الدولي.
[1] اتفاقية جنيف الرابعة، المادة 33.
[2] مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تقرير المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، 15/3/2018.
[3]أنظر قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967)، 22/11/1967.
[4] مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بيان خطي مقدم من مؤسسة الحق، 24/5/2017. ص 2.
[5] إحصائيات حول عمليات الهدم التي نفذتها قوات الاحتلال عام 2017 في الأرض المحتلة، مؤسسة الحق.
[6] المادة الأولى المشتركة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
[7] اتفاقية لاهاي، المادة 55 (1907)، دخلت القانون الدولي الإنساني العرفي.
[8]انظر مثلًا:Al-Haq, “Grapewashing the Occupation: The Case of the Chinese Hubey Pengdun Group” (16 January 2018), available at: http://www.alhaq.org/advocacy/topics/business-and-human-rights-focus/1171-grapewashing-the-occupation-the-case-of-the-chinese-hubey-pengdun-group.
[9] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المادة (8) (2) (ب) (16).
UN Human Rights Council, Report of the Special Rapporteur on the situation of human rights in the Palestinian territories occupied since 1967, UN Doc A/HRC/37/75, 15 March 2018, para. 36.
Al-Haq, “Gaza Closure Enters its Tenth Year” (20 June 2017), pp. 3-6, available at: http://www.alhaq.org/publications/papers/GazaClousureJune2017.pdf.
UN OCHA, “Gaza Strip electricity supply”, available at: