القائمة الرئيسية
EN
رؤية مؤسسة الحق للإصلاح القضائي في فلسطين
31، مايو 2014

courtroom-hammer-haqتتابع مؤسسة الحق باهتمام بالغ التطورات المتسارعة التي تجري على صعيد السلطة القضائية، والتي تطرح مجدداً تساؤلات بشأن مدى توافر إرادة سياسية جادة في مسار الإصلاح القضائي والنهوض بمؤسسات العدالة في فلسطين، وبخاصة في ظل أجواء المصالحة الفلسطينية والحاجة الماسة لترميم النظام السياسي وتوحيد السلطات والمؤسسات وفي مقدمتها السلطة القضائية، على أسس مهنية وموضوعية وشفافة، قادرة على ترسيخ دعائم استقلال القضاء وبناء سلطة قضائية فاعلة ومستقلة، وهو نقاش قديم حديث وله أسبابه ومبرراته على ضوء ما آل إليه وضع السلطة القضائية وحال منظومة العدالة في فلسطين. ومن هنا، تكمن أهمية هذه الرؤية التي تعبّر عن موقف "الحق" في إطار دورها الرقابي وحرصها على استقلال القضاء ودعم قطاع العدالة.

تنطلق هذه الرؤية من أنه وبالرغم من اهتمام قانون السلطة القضائية بدعم استقلال القضاء، إلاّ أن العمومية التي سيطرت على نصوص القانون، وافتقاره إلى معايير وآليات واضحة تبين مهام واختصاصات مؤسسات العدالة والعلاقة القائمة فيما بينها وحدودها، وتخطي أحكامه في كثير من الأحيان، وغياب التكوين والأداء المؤسسي لصالح الاجتهاد الشخصي، قد أضعفت من دوره كمرجعية قانونية في تعزيز استقلال القضاء ودعم العلاقة التكاملية بين مؤسسات العدالة، بما يتطلب إجراء تعديلات جوهرية على قانون السلطة القضائية تنسجم مع طبيعة أهدافه وغاياته، وتكون واجبة الالتزام في التنفيذ، عملاً بمبدأ سيادة القانون كأساس واجب الاحترام.

وتؤمن هذه الرؤية، بأن الإصلاح الشامل في القضاء ومنظومة العدالة يتطلب وبالأولوية القصوى بذل جهود حثيثة لتوحيد السلطة القضائية ومنظومة العدالة في الضفة الغربية وقطاع غزة على أُسس مهنية وشفافة، بما يؤسس وينعكس إيجاباً على استعادة وحدة عمل المؤسسات وعلى واقع الحقوق والحريات في دولة فلسطين.

تستند هذه الرؤية إلى الأعمال والجهود المتواصلة التي بذلتها العديد من مؤسسات حقوق الإنسان والمؤسسات الرسمية كذلك والتي استمرت على مدى السنوات السابقة كمحاولات جادة لإصلاح قطاع العدالة، وإلى الجهود التي بذلتها اللجنة التوجيهية لتطوير القضاء والعدل في العام 2005، وإلى والوثائق والخطط الاستراتيجية لمؤسسات العدالة وبخاصة المجلس القضائي ووزارة العدل والنيابة العامة، وإلى جهود مجموعات بؤرية متخصصة من مؤسسات العمل الأهلي، وجهود نقابة المحامين، وإلى خلاصة آراء متخصصين وذوي شأن من قضاة ومحامين وأساتذة جامعات ومهتمين بالشأن القضائي ورفعته وبدعم منظومة العدالة في فلسطين.

وفيما يلي أبرز النقاط التي تقوم عليها الرؤية:

1. ضرورة تشكيل "مجلس قضاء أعلى إنتقالي" ومنحه كامل الصلاحيات القانونية اللازمة لتشكيل وإعادة هيكلة الهيئات القضائية وترتيب أوضاع القضاء والمحاكم والنيابة العامة ودراسة التعيينات والترقيات التي جرت في المناصب القضائية والنيابة العامة واتخاذ القرارات اللازمة والنافذة بهذا الخصوص بما يكفل تحري المهنية والاستقلالية واللياقة في الأداء وإرساء وتثبيت ومأسسة دعائم استقلال القضاء والنهوض بقطاع العدالة.

2. عدم اقتصار عضوية مجلس القضاء الأعلى الانتقالي على القضاة فقط، بما يقتضي أهمية تغذيته بأعضاء من خارج السلك القضائي من ذوي الخبرة والكفاءة بالشأن القضائي، ومشهود لهم بالأمانة والنزاهة والاستقلالية والحياد، ويكفل تحقيق المشاركة الفاعلة والرقابة الخارجية والشفافية في أداء المجلس القضائي.

3. دعماً للتكوين والأداء المؤسسي الفاعل والمستقل للمجلس القضائي الانتقالي، فإنه من الضروري أن يقتصر القرار الرئاسي الذي سيصدر لهذه الغاية على تسمية أعضاء المجلس القضائي الانتقالي، دون تسمية رئيسه، بحيث يتولى أعضاء المجلس الانتقالي بعد ترسيمهم انتخاب الرئيس بالاقتراع السري المباشر. وبالتالي، فإن اختزال مسار الإصلاح الشامل والمنتظر في القضاء، بتعيين رئيس جديد للمجلس القضائي، من شأنه أن يعيد إنتاج أخطاء الماضي في ظل عدم استخلاص دروس الماضي، بما يؤدي إلى بقاء عملية الإصلاح بعيدة المنال.

4. ينبغي التأكيد على أهمية وضرورة أن يقدم المجلس القضائي الانتقالي تقارير دورية منتظمة خلال مدته الانتقالية، البالغة سنة غير قابلة للتجديد، على أن يُبين فيها الإجراءات التي اتخذت والإنجازات التي تحققت على طريق إتمام مهمته والتحديات التي تعترضه وسبل معالجتها، بحيث تُرسل تلك التقارير إلى رئيس السلطة الوطنية والمجلس التشريعي ومجلس الوزراء وتنشر في الجريدة الرسمية وسبل النشر المتاحة.

5. مجلس القضاء الأعلى الدائم، الذي سيتسلم مهامه بعد انتهاء ولاية المجلس الانتقالي، ليس بالضرورة أن تكون العضوية فيه دائمة، وينبغي تغذيته بأعضاء من خارج القضاء على غرار المجلس الانتقالي، وذلك لأن جوهر الاختلاف بينهما إنما يكمن في الصلاحيات القانونية "الاستثنائية" المعطاة للمجلس الانتقالي خلال مدة عام كامل من أجل معالجة الواقع الأليم الذي آل إليه حال السلطة القضائية وواقع قطاع العدالة في فلسطين. واختيار أعضاء في المجلس القضائي من خارج القضاة له سنده في التجربة الفلسطينية بوجود وكيل وزارة العدل في عضوية المجلس القضائي، وله سنده أيضاً وعلى نحو واسع في حجم العضوية بالتجارب الدولية؛ كما هو الحال في المجلس القضائي الفرنسي والإسباني والبرتغالي والإيطالي والتركي وغيره من المجالس القضائية.

6. ضرورة أن يتم اختيار الأعضاء من القضاة في مجلس القضاء الأعلى الدائم من نظرائهم، مع أهمية إشراك قضاة البداية في التشكيل، وإعادة النظر في مسألة الجمع بين منصب رئاسة المحكمة العليا (منصب قضائي) ورئاسة مجلس القضاء الأعلى (منصب إداري) من أجل تحري الكفاءة والفعالية وتجنب تضارب المصالح في الأداء، مع أهمية وضع آلية قانونية لإمكانية مساءلة رئيس المجلس القضائي، ورفع الاستثناء غير المبرر لقضاة العليا من أعمال التفتيش القضائي، بما يتطلب إجراء تعديل قانوني على تشكيل دائرة التفتيش القضائي.

7. ضرورة ضمان علانية وشفافية المداولات والقرارات والإجراءات الصادرة عن المجلس القضائي ما لم يقرر بأغلبية ثلثي عدد أعضائه وعلى نحو مسبب خلاف ذلك، ونشرها في الجريدة الرسمية ووسائل النشر المتاحة.

8. ضرورة وضع معايير وضوابط موضوعية وشفافة فيما يتعلق بتشكيل اللجان والدوائر والوحدات التابعة لمجلس القضاء الأعلى، وتحديد مهامها واختصاصاتها والعلاقة فيما بينها، ووضع أُسس ومعايير واضحة وموضوعية ومهنية وشفافة فيما يتعلق بآليات تعيين القضاة وترقيتهم وندبهم ومساءلتهم.

9. من الضروري التأكيد على أنه كلما كانت هنالك ضوابط وموازين وآليات قانونية واضحة ومحددة في قانون السلطة القضائية تحكم العلاقة بين السلطتين القضائية والتنفيذية، ومؤسسات العدالة عموماً، مبنية على الأداء المؤسسي والرقابة المتبادلة والمتوازنة ومبدأ الفصل المرن بين السلطات، بعيداً عن الاجتهاد الشخصي، كلما أدى ذلك إلى دعم وتثبيت استقلال القضاء والنهوض بقطاع العدالة. وهنا لا بد من التأكيد أيضاً، على أن مبادىء النزاهة والشفافية والمساءلة تحمل معان ومضامين واحدة ومتلازمة، وليس لها مفهوم خاص بالسلطة القضائية، تماماً كمبدأ سيادة القانون كأساس للحكم في فلسطين والذي ينبغي أن يسري على الجميع دون استثناء.

10. إن التمويل الخارجي المباشر للسلطة القضائية والنيابة العامة والمعهد القضائي يشكل تهديداً جدياً لاستقلال القضاء ويؤثر سلباً على هيبة وثقة المواطنين بمؤسسات العدالة، وإذا كان تأمين احتياجات ومتطلبات السلطة القضائية والنيابة العامة للاطلاع بمهامها ومسؤولياتها وتطوير أدائها هو حقٌ لها، فإن هذا الحق ينبغي أن يقابله واجبٌ يقع تنفيذه حصراً على عاتق السلطة التنفيذية صاحبة الاختصاص. وفي الوقت ذاته، فإن وجود لوائح مالية وإدارية خاصة بالسلطة القضائية وإقرارها حسب الأصول من شأنه أن يساهم في دعم وتلبية احتياجاتها ومتطلباتها وتحقيق استقلاليتها، والارتقاء بمستوى وجودة الأداء، وينسجم مع مبادىء الشفافية والمساءلة على الأداء.

11. ضرورة تحقيق الانسجام التشريعي بين القانون الأساسي وقانون السلطة القضائية فيما يخص إصدار اللوائح التنفيذية المكملة للقانون. وتحقيقاً لاستقلال القضاء، ولكون المجلس القضائي هو الجهة الأقدر والأكثر دراية بتفاصيل ما ينبغي أن تتضمنه اللوائح المكملة لقانون السلطة القضائية، فإنه ينبغي أن يقتصر دور مجلس الوزراء في عملية إصدار مشروعات اللوائح التنفيذية المرفوعة له من المجلس القضائي على فحص مدى انسجامها مع أحكام القانون الأساسي والقانون؛ أي تحري مبدأ المشروعية وسيادة حكم القانون في تلك اللوائح فقط. كما وينبغي وضع مدة زمنية محددة لصدور اللوائح التنفيذية المكملة لقانون السلطة القضائية في التعديلات المقترحة على القانون بهذا الخصوص، بهدف تعزيز الآليات التي يحتاجها قانون السلطة القضائية الذي يُعاني أساساً من العمومية وغياب الآليات، بما ينعكس إيجاباً على الاستقلالية والعلاقة التكاملية المفترضة بين مؤسسات العدالة.

12. ضرورة توضيح مرجعية النيابة العامة في قانون السلطة القضائية على نحو جلي لا يقبل أي جدل أو تأويل، وتوضيح آلية مساءلة النائب العام على المستوى القانوني، ووضع معايير وضوابط واضحة وموضوعية ومهنية فيما يتعلق بآلية تعيين أعضاء النيابة العامة وترقيتهم ومساءلتهم، والعمل على ضمان استقلالية دائرة التفتيش القضائي للقضاة عن دائرة التفتيش للنيابة العامة، واستحداث الأخيرة في نصوص قانون السلطة القضائية، ضماناً للكفاءة والفعالية والتخصص في الأداء، ولاختلاف دور وطبيعة عمل القضاة عن أعضاء النيابة العامة.

13. ضرورة توسيع العضوية في دائرة التفتيش القضائي، وإمكانية إشراك أعضاء من خارج السلك القضائي كقضاة سابقين مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة وأكاديميين وخبراء في الشأن القضائي والإداري أيضاً مع مراعاة شرط التفرغ، وضرورة رفع الحصانة غير المبررة لقضاة العليا من التفتيش القضائي وتقليص مدة السنتين المنصوص عليها في القانون ضماناً للفعالية في الأداء، والفصل بين منصب رئيس دائرة التفتيش القضائي ومنصب رئيس المكتب الفني ضماناً للفعالية في الأداء في كل من المنصبين وتجنباً لتضارب المصالح.

14. ضرورة نشر تقارير دورية منتظمة عن أعمال التفتيش القضائي بما ينسجم مع مبادىء الشفافية ويتيح تحقيق رقابة داخلية وخارجية فعّالة على الأداء، والتأكيد على أن تتضمن تلك التقارير نتائج التفتيش ومؤشرات الأداء والمخالفات المرتكبة وآليات المتابعة والصعوبات التي تعترضها وسبل معالجتها، مع التحفظ فقط على اسم القاضي وبياناته الشخصية في التقارير الدورية المنشورة، وضرورة العمل على رفع القيود والتعقيدات غير المبررة التي تضعها لائحة التفتيش القضائي على الشكاوى المقدمة لدائرة التفتيش من أجل ضمان عدم عرقلة الشكاوى المقدمة. كما أن الإبلاغ عن أوجه الانحراف والفساد هو واجب أخلاقي وقانوني يستهدف المصلحة العامة.

15. ضرورة توضيح مرجعية وتبعية إدارة المحاكم في السلطة القضائية، ووضع أُسس ومعايير مهنية وموضوعية لإدارة المحاكم وتشكيلها ومهامها وصلاحياتها وعلاقتها بالدوائر والوحدات التابعة للمجلس القضائي، ونشر تقارير دورية منتظمة عن أداء إدارة المحاكم بكافة أعمالها وأنشطتها، تعزيزاً لمبادىء الشفافية والمساءلة على مدى سلامة وفعالية الأداء، وضرورة العمل على تحديث وتفعيل النظام الخاص بتقييم أداء الموظفيين الإداريين في السلطة القضائية والنظام الخاص بالشكاوى بهدف تعزيز بيئة الشفافية والمساءلة في عمل إدارة المحاكم.

وأخيراً، وبخصوص المحكمة الدستورية العليا، فإنَّ نقاش جدوى وجودها مرتبط إلى حد كبير بإصلاحات جوهرية على مستوى السلطة القضائية ومنظومة العدالة في فلسطين، بحيث تأتي انطلاقة المحكمة تتويجاً لتلك الإصلاحات التي كانت ولا زالت تشكل حاجة ماسة في ظل واقع أليم يُعاني من ترد مستمر وغياب للمأسسة لا ينكره مراقبٌ أو متابعٌ للشأن القضائي، ومرتبطة بمدى توفر ضمانات فعّالة على المستوى القانوني وفي التطبيق العملي من شأنها أن تُمكِّن المحكمة أن تكون الحارس الأمين والذراع القوية لمبدأ سمو الدستور والمدافع عن الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية التي كفلها القانون الأساسي. وذات الأمر، يُقال في مسألة التقاضي على درجتين في القضاء الإداري، ويُقال أيضاً في القضاء المُتخصص ودوره في الارتقاء بالعدالة، فالمأسسة أولاً وترتيبُ البيت ثم ينطلقُ قطار الإصلاح الحقيقي المُنتظر في القضاء ومنظومة العدالة في فلسطين.