التاريخ مستمر | النشر 01 أبريل 2025 | الموقع الضفة الغربية، الأرض الفلسطينية المحتلة |
المنتدى المناصرة، المحاسبة القانونية | بتكليف من مبادرة ذاتية | المنهجيات استخبارات المصادر المفتوحة، التنقيب عن البيانات، تحديد الموقع الجغرافي، البحث الميداني، رسم الخرائط،، تحديد الأنماط |
الموضوع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، مصادرة الأراضي، عنف المستوطنين | ||
إطلاق المنصة |
الملخص:
منذ 7 أكتوبر 2023، وثّقت وحدة الاستقصاء المعماري في مؤسسة الحق التهجير القسري الممنهج لأكثر من 46 تجمعاً بدوياً في الضفة الغربية المحتلة، من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين المقيمين بشكل غير قانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة. لم تكن هذه ممارسات عشوائية؛ بل تشكل جزءاً ممنهجاً من استراتيجية الاستعمار الاستيطاني طويلة الأمد التي تنفذها دولة الاحتلال منذ عقود، بهدف إعادة تشكيل الضفة الغربية كمصدر احتياطي للطاقة يخدم المصالح الإسرائيلية، في إطار مشروع أوسع يسعى إلى تصفية الوجود الفلسطيني الأصلاني واستبداله بالمستوطنين الإسرائيليين اليهود.
من خلال توثيقنا، رصدنا النمط التالي: يقوم المستوطنون الإسرائيليون بإنشاء بؤر استيطانية غير قانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة، يتبعها ممارسة العنف والترهيب بحق التجمعات الفلسطينية وتهجير سكانها قسراً. وفي مرحلة لاحقة، تتدخل الحكومة الإسرائيلية لتشييد وتوسيع البنية التحتية الإسرائيلية وربطها بتلك المناطق، إذ تشكل شبكات نقل الكهرباء المشار إليها أدناه مثالاً واضحاً على هذا النمط. لا يقتصر هذا السلوك الممنهج على تعزيز السيطرة الاستيطانية على الأرض الفلسطينية المحتلة، بل يخل أيضاً بالتماسك الجغرافي ويعيق إمكانية عودة الفلسطينيين المهجّرين إلى أراضيهم.
تكشف تحقيقاتنا أن الغالبية العظمى من التجمعات التي تم تهجيرها منذ أكتوبر 2023 كانت تقع بالقرب من مشروع بنية تحتية إستراتيجي، يتمثل في مد خط نقل كهرباء إسرائيلي مقترح بقدرة 400 كيلو فولت عبر الضفة الغربية المحتلة، ويتماشى مع مواقع محطات توليد الطاقة والحقول الشمسية الإسرائيلية القائمة والمخطط لها. يعد هذا الخط عنصراً محورياً في خطة دولة الاحتلال للطاقة لعام 2030، ويهدف إلى تعميق تبعية الفلسطينيين/ات لشبكة الكهرباء الإسرائيلية. وإذ يقع هذا المشروع بالقرب من منشآت الطاقة الشمسية الإسرائيلية القائمة والمقترحة، بما يضمن تزويد المستوطنات غير القانونية بالطاقة، في إطار سياسة تهدف إلى دمج الأرض الفلسطينية المحتلة في منظومة الطاقة الإسرائيلية، ما يشكل نهباً إضافياً للموارد الطبيعية الفلسطينية.
تستخدم دولة الاحتلال سيطرتها على البنى التحتية للكهرباء والمياه كأدوات للهيمنة والسيطرة على الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تتعمد فيه حرمان التجمعات الفلسطينية في المنطقة (ج) من الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل شبكات الكهرباء والمياه. ومن خلال تقييد الوصول إلى هذه المقومات الضرورية للحياة، تسعى دولة الاحتلال إلى فرض بيئة ضاغطة تدفع بهذه المجتمعات إلى الرحيل، ما يسهم بشكل مباشر في تهجيرها القسري.
وفي الخلاصة، إن تهجير التجمعات الفلسطينية لا يعد حدثاً معزولاً أو عارضاً، بل يشكّل جزءاً من مخطط استراتيجي أشمل يهدف إلى استعمار الأرض الفلسطينية والاستيلاء على أراضيها ومواردها وإبقاء التجمعات الفلسطينية في حالة دائمة من التبعية والتهجير، بما يعزز الأهداف الاستعمارية الاستيطانية طويلة الأمد لدولة الاحتلال.
خريطة تظهر مواقع التهجير الجزئي والكلي في الأرض الفلسطينية المحتلة خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني (2023).
المصدر: مؤسسة الحق 2025
المنهجية:
اعتمد التحقيق على تقنيات رسم خرائط متقدمة (mapping) لتحديد مواقع التجمعات التي تعرضت للتهجير، ومقارنتها بالمستوطنات والبنى التحتية التي أنشئت حديثاً على أراضٍ تمت مصادرتها، مما كشف عن أنماط مكانية واضحة تربط بين التهجير والتوسع الاستيطاني. كما جرى تحليل وثائق تخطيط إسرائيلية، بما في ذلك بيانات مستخرجة من نظام التخطيط، بهدف توثيق العلاقة المباشرة بين عمليات التهجير والمشاريع المستقبلية للبنية التحتية الاستيطانية.
اعتمدنا على إفادات ميدانية موثقة لأفراد من السكان المهجّرين، وقمنا بمقاطعتها مع توثيقات بصرية وثّقت اعتداءات المستوطنين وعمليات الهدم التي نفذتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي. كما جمعت بيانات إحصائية دقيقة حول عدد العائلات المتضررة، مع تصنيف التجمعات حسب درجة التهجير الذي تعرضت له، سواء كان جزئياً أم كلياً.
كما تتبع التحقيق التوسع غير القانوني للبؤر الاستيطانية الجديدة التي أنشئت خلال العام الماضي، رابطاً بشكل مباشر بين هذه التوسعات وتصاعد عنف المستوطنين. وفي ختام التحليل، جرى فحص السياسات الإسرائيلية والوثائق الرسمية، ما كشف عن الكيفية التي تستخدم بها مشاريع البنية التحتية، كشبكات الكهرباء ومشاريع الطاقة المتجددة، كأداة لتعزيز المشروع الاستيطاني.
المقدمة:
منذ السابع من أكتوبر 2023، شهدت الأرض الفلسطينية المحتلة تصاعداً ملحوظاً في عنف المستوطنين، ارتبط بشكل مباشر بعمليات التهجير القسري الجماعي التي استهدفت التجمعات البدوية الفلسطينية. غير أن هذا التصعيد لا يعد حدثاً معزولاً، بل يأتي في سياق سياسات تخطيط وتنظيم طويلة الأمد تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، في إطار بيئة قسرية تهدف إلى دفع هذه التجمعات إلى مغادرة أراضيها. وتشير البيئة القسرية إلى جملة من الإجراءات التي تهدف إلى الضغط على الأفراد أو الجماعات لإجبارهم على مغادرة منازلهم، كالعنف، والترهيب، وحرمانهم من الاحتياجات الأساسية.
تُعد هذه الأساليب بمثابة جريمة تهجير قسري وفقاً للقانون الدولي، حيث تؤدي فعلياً إلى اقتلاع السكان، في انتهاك صارخ لحظر هذا النوع من الأفعال بموجب القانون الدولي الإنساني، وعلى رأسه اتفاقية جنيف الرابعة. كما يعرّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التهجير القسري بأنه لا يقتصر على استخدام القوة المادية، بل يشمل أيضاً التهديد أو الإكراه، بما في ذلك الخوف من العنف، أو الاضطهاد النفسي، أو الاحتجاز، أو إساءة استخدام السلطة.
وقد كشفت تحقيقاتنا عن وجود ارتباط جغرافي واضح بين مواقع التجمعات المهجرة ومشاريع البنية التحتية الإسرائيلية غير القانونية المقترحة في الضفة الغربية المحتلة.
العنف الاستيطاني كأداة للتهجير:
من خلال تحقيقنا، رصدنا نمطاً مقلقاً ومتكرراً من التهجير القسري في التجمعات التي قمنا بتوثيقها. تبدأ هذه السلسلة في العادة بإنشاء بؤرة استيطانية إسرائيلية غير قانونية، إذ تم إنشاء 91 بؤرة جديدة خلال عامي 2023 و2024. وفي حين يجري شرعنة بعض هذه البؤر بأثر رجعي من قبل الحكومة الإسرائيلية، تزود أخرى ببنى تحتية ودعم مباشر من سلطات الاحتلال. وغالباً ما ينفّذ المستوطنون في هذه البؤر أعمال عنف ممنهجة ضد التجمعات الفلسطينية، مستخدمين التهديد والترهيب لإجبار السكان على الرحيل. فعلى سبيل المثال، تعرّض تجمّع وادي السيق لتهديد مباشر من قبل مستوطنين مسلحين، توعدوا السكان بالقتل ما لم يغادروا خلال ساعة واحدة.
في بعض الحالات، لا تكتفي قوات الاحتلال الإسرائيلي بمرافقة المستوطنين العنيفين وحمايتهم خلال اعتداءاتهم، بل تشارك بنفسها في الهجمات ضد الفلسطينيين، مما يسهّل عمليات التهجير من خلال التهديد باستخدام العنف المفرط أو ممارسته فعلياً. ففي عام 2024، تم توثيق أكثر من 1,400 اعتداء نفذه مستوطنون، من بينها 255 اعتداء وقع خلال الأسابيع الستة الأولى التي تلت السابع من أكتوبر 2023. تم تنفيذ العديد من هذه الهجمات على يد مستوطنين يرتدون زيّ الجيش الإسرائيلي، ويتصرفون بتنسيق مباشر مع قوات الاحتلال. وتصاعد عنف المستوطنين بشكل ملحوظ بعد قيام وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بتسليح آلاف المستوطنين، مستخدماً في الغالب أسلحة من طراز M16 أميركية الصنع. وفي ظل إفلات تام من المحاسبة على مختلف مستويات الدولة الإسرائيلية، بات عنف المستوطنين سياسة ممنهجة ومدعومة من الدولة، تستخدم كأداة لتهجير التجمعات الفلسطينية قسرا من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، ضمن عملية متواصلة لمحو الوجود الفلسطيني.
خريطة توضح موقع المجتمعات الفلسطينية وعلاقتها مع البؤر الاستيطانية غير القانونية في الضفة الغربية المحتلة في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني (2023).
المصدر: مؤسسة الحق 2025
البنية التحتية كأداة للهيمنة: سياسات التخطيط والتقسيم العنصرية في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي
إلى جانب العنف المباشر، تتكشف آليات تهجير أكثر بطئاً وهدوءاً عبر سياسات التخطيط والتقسيم العنصرية التي تعتمدها دولة الاحتلال والتي تقوّض قدرة الفلسطينيين على البقاء وتقيّد توسّعهم العمراني.
تظهر الصورة أدناه خطوط الكهرباء القائمة في الضفة الغربية المحتلة، حيث يجبر الفلسطينيون على الاعتماد على شبكة الكهرباء الإسرائيلية، كما هو الحال في معظم أنحاء الضفة الغربية. إذ يتطلب إنشاء بنى تحتية كهربائية الحصول على تصاريح ل من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً. وبالتالي، يفرض هذا الواقع تبعية قسرية للفلسطينيين لشبكة الكهرباء الإسرائيلية، التي تباع لهم بأسعار مرتفعة تفوق معدلاتها الطبيعية. ومن اللافت أن هذه البنية التحتية تكاد تكون غائبة تماماً في المناطق الخالية من المستوطنات، كما هو الحال في منطقة جنين، بينما تتركّز خطوط الكهرباء بشكل كثيف في محيط التجمعات الاستيطانية، لا سيما في منطقة نابلس. ويعكس ذلك توجّهاً استراتيجياً يستهدف دعم وتوسيع النشاط الاستيطاني غير القانوني، بدلاً من توفير الخدمات الأساسية للسكان الفلسطينيين.
خريطة توضح غياب خطوط نقل الكهرباء عالية الجهد الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية التي لا توجد فيها مستوطنات إسرائيلية كبيرة، مثل منطقة جنين في الضفة الغربية المحتلة.
المصدر: مؤسسة الحق 2025
في شهر مارس/آذار 2023، استولت السلطات الإسرائيلية على 2,640 دونماً (ما يعادل 652 فداناً) من الأراضي الفلسطينية في محيط شرقي القدس وأعادت تصنيفها كـ"أراضي دولة". وفي أعقاب ذلك، تم محو تجمعي أبو نوار وأبو السلطان البدويين وتهجير سكانهما قسراً، إلى جانب جزء من تجمع وادي أبو هندي. وتظهر الخرائط التي قمنا بإعدادها وجود دافع استراتيجي خلف هذا التهجير، إذ كانت هذه التجمعات تشكل حاجزاً جغرافياً بين مستوطنات معاليه أدوميم، كيدار، وكيدار الجنوبية. إذ مكّن إزالة هذه التجمعات من خلق تواصل إقليمي بين هذه المستوطنات، على حساب تفتيت الأرض الفلسطينية المحتلة وحرمانها من الترابط الجغرافي.
على مدار سبعة عشر شهراً، قمنا برصد الكيفية التي سمحت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالتوسع السريع في البنية التحتية الاستيطانية، من طرق جديدة وخطوط كهرباء وأنابيب مياه تخدم المستوطنات والبؤر الاستيطانية غير القانونية، في الوقت الذي جرى فيه حرمان التجمعات الفلسطينية بشكل متعمّد من الوصول إلى المياه، والكهرباء، وشبكات الطرق. ولا يقتصر الأمر هنا على مجرد الحرمان من الخدمات، بل يتعدّاه إلى خلق بيئة قسرية ممنهجة، فعندما يحاول الفلسطينيون التكيّف مع هذا الواقع القاسي عبر حلول بديلة، كاستخدام خزانات المياه أو الألواح الشمسية، تقوم سلطات الاحتلال بتفعيل أوامر عسكرية، مثل الأمر العسكري رقم 1252 الذي يجيز مصادرة الهياكل المنقولة بذريعة عدم حصولها على التراخيص المطلوبة.
وفي حادثة تجسّد بوضوح وحشية هذه السياسات في إطار نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الذي تنتهجه دولة الاحتلال، تمثّلت في قيام جندي إسرائيلي بإطلاق النار من مسافة صفر على الشاب هارون أبو عرام في ديسمبر/كانون الثاني من عام 2021، أثناء محاولته استعادة مولّد كهرباء صادرته القوات الإسرائيلية. وقد أسفر إطلاق النار عن إصابته بالشلل الدائم، وذلك بعد شهر واحد فقط من هدم منزله في قرية الركيز بمنطقة مسافر يطّا جنوب الخليل.
في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين عن خطط لإنشاء محطتين جديدتين لتوليد الكهرباء وعدد من الحقول الشمسية، وذلك تحت غطاء تعزيز أمن الطاقة. غير أن ما تخفيه التصريحات الرسمية تكشفه تحقيقاتنا: إذ من المخطط إقامة هذه المشاريع على ذات الأراضي التي تم تهجير 25 تجمّعاً فلسطينياً منها خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023. وتظهر وثائقنا أن سلطات الاحتلال نفّذت في هذه المناطق ذاتها، وبنهج منظم، عمليات مصادرة وتخريب استهدفت الألواح الشمسية والمولدات التي يعتمد عليها الفلسطينيون كمصادر بديلة للطاقة. وفي الوقت الذي تمضي فيه دولة الاحتلال في تشييد بنية تحتية للطاقة المتجددة داخل الضفة الغربية المحتلة، يحرم الفلسطينيون من أبسط حقوقهم في الوصول إلى الكهرباء، بل يدفعون قسراً إلى النزوح لإفساح المجال أمام تنفيذ هذه المشاريع الاستيطانية. وقد صرّح كوهين في إعلانه، بأن هذه هي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي سيتم فيها إنشاء محطات كهرباء بمواقع استراتيجية داخل الضفة الغربية المحتلة. وقد حددنا وجود مجموعتين من محطات الكهرباء: الأولى تتماشى مع خطوط الكهرباء القائمة، والثانية تقع في محيط خط الكهرباء المقترح. وحتى تاريخ النشر، كان الكنيست الإسرائيلي قد صادق على إنشاء محطتين فقط من أصل سبع محطات طاقة مقترحة ضمن المخطط.
تظهر المشاهد تبايناً صارخاً بين واقعين: من جهة، إعلان وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين عن مشاريع محطات الطاقة والحقول الشمسية الكبرى، ومن جهة أخرى جسد هارون أبو عرام ينزف على الأرض بعد إطلاق النار عليه بسبب محاولته استعادة مولّد تمت مصادرته. هاتان ليستا قصتين منفصلتين، بل تجسيد لسياسة واحدة ممنهجة تقوم على الإقصاء والاستبدال.
مسارات التهجير كأداة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية
تكشف خرائط التهجير الحالية التي قمنا برصدها خلال الشهرين الأوليين من الإبادة الجماعية التي شنّتها دولة الاحتلال على غزة، والتي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، عن معطيات صادمة تُجسّد حجم الكارثة الإنسانية:
تم تهجير 25 تجمعاً فلسطينياً قسراً، شمل 4 قرى ريفية و21 تجمعاً بدويًا.
تم تهجير 168 عائلة قسراً، تضم ما مجموعه 1,147 فرداً، وقد شهد 68٪ من هذه التجمعات محواً كاملاً.
وعند تحليل هذه البيانات في ضوء وثائق التخطيط الإسرائيلية، يتضح وجود تطابق دقيق بين مواقع التجمعات المهجّرة والمخططات المستقبلية للبنية التحتية الاستيطانية، ما يدل على طابعها المنهجي.
وقد أكدت الوثائق الحكومية الإسرائيلية، التي تم الحصول عليها في يوليو/تموز 2024، هذا الارتباط بشكل قاطع، حيث أُقرت خطة جديدة لتعزيز أمن الطاقة منحت بموجبها الإدارة المدنية الإسرائيلية صلاحية تخصيص أراضٍ لمشاريع البنية التحتية الكهربائية، وهي الأراضي ذاتها التي تم تفريغها من سكانها الفلسطينيين قبل بضعة أشهر فقط.
في السياق ذاته، كشفت تقارير صادرة عن الاتحاد الأوروبي عن ضلوع الشركة الإيطالية CESI في تطوير خطوط نقل الكهرباء بجهد 400 كيلوفولت، وهي ممرات عالية الجهد صممت خصيصاً لخدمة المستوطنات الإسرائيلية. وقد نفى مسؤولون فلسطينيون في قطاع الكهرباء، عند التواصل معهم، أي علاقة تربطهم بهذه المشاريع. وتؤكد هذه المعطيات أن البنية التحتية المستحدثة تهدف إلى خدمة المستوطنات غير القانونية على حساب الفلسطينيين وحقوقهم الأساسية.
خريطة توضح خط نقل الكهرباء المقترح بجهد 400 كيلوفولت وعلاقته بالتجمعات الفلسطينية المهجّرة في الأرض الفلسطينية المحتلة.
المصدر: مؤسسة الحق، 2025
تحتضن الضفة الغربية أربع محطات رئيسية للطاقة الشمسية أقامتها دولة الاحتلال، تقع ثلاث منها في منطقة الأغوار، بعد أن صادرت سلطات الاحتلال معدات الألواح الشمسية المملوكة للفلسطينيين. ومنذ تهجير التجمعات الفلسطينية الواقعة قرب خط الكهرباء المقترح، ظهرت مقترحات جديدة لإنشاء محطات طاقة شمسية إسرائيلية في الأراضي التي أخليت من سكانها. وتعد منطقة الأغوار من أكثر المناطق ملاءمة لإنتاج الطاقة الشمسية في الضفة الغربية المحتلة، لما تتميز به من إشعاع شمسي مرتفع وظروف جغرافية مواتية، كالمساحات الواسعة والمسطحة التي تسهّل إنشاء مشاريع الطاقة. وتبرز الخريطة كيف تحوّلت هذه المنطقة إلى مركز لعمليات التهجير القسري، وتوسيع البؤر الاستيطانية غير القانونية، وتطوير بنية تحتية كهربائية واسعة ضمن خطة دولة الاحتلال للطاقة المتجددة لعام 2030.
حالة وادي السيق: مثال على سياسات الإقصاء والتهجير
يعد وادي السيق (ظهر الجبل) واحداً من بين 25 تجمعاً فلسطينياً تعرّض للتهجير القسري خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي تلا أحداث 7 أكتوبر 2023. ويقع هذا التجمع البدوي على بُعد 10 كيلومترات شرق مدينة رام الله، وكان يضم عائلات من عرب الكعابنة، وهي قبيلة بدوية طالما واجهت التهجير المتكرر منذ طردها الأول من تل عراد، شمال شرق بئر السبع، عام 1948. وعلى مدار العقود الماضية، تعرّض أبناء هذه القبيلة لخمسة موجات تهجير قسري في ظل الاحتلال الإسرائيلي، كان آخرها في أكتوبر 2023، في ظل تصاعد عنف المستوطنين.
صورة للوحة شمسية مدمرة كان يستخدمها سكان وادي السيق خلال هجوم المستوطنين غير القانونيين على التجمع في أكتوبر 2023.
المصدر: علاء بدارنة 2023
مع مطلع عام 2023، كان المستوطنون قد استحوذوا على ما يقارب 1,500 دونم من أراضي وادي السيق، إضافة إلى 33 بئراً مائياً كانت تخدم سكان التجمع، وذلك بالتزامن مع تنفيذ اعتداءات متكررة وعنيفة ضد السكان. وتظهر التحقيقات أن المستوطن نيريا بن بازاي هو الشخصية المحورية في تنظيم هذه الهجمات، وقد تم إدراجه رسمياً من قبل مجلس الاتحاد الأوروبي ضمن قائمة الأفراد المسؤولين عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق الفلسطينيين. ويقود بن بازاي اعتداءاته من بؤرة استيطانية لا تبعد سوى 300 متر عن مدرسة وادي السيق، حيث شنّ هجمات متكررة استهدفت التجمع البدوي، بما في ذلك طلاب المدرسة.
بعد السابع من أكتوبر، تصاعدت وتيرة العنف بشكل ملحوظ، حيث نفّذ المستوطنون، بعضهم بينما يرتدون زيّا عسكرياً، اعتداءات متكررة على منازل العائلات، ناشرين الذعر بين الأطفال والبالغين على حد سواء. ووفقاً لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، فإن المستوطن نيريا بن بازاي أصدر توجيهات مباشرة بتنفيذ عدة هجمات ضد التجمع البدوي في أعقاب تلك الأحداث.
وفي الثاني عشر من أكتوبر، قرابة منتصف النهار، اقتحمت قوة مشتركة من قوات الاحتلال الإسرائيلي والشرطة والمستوطنين، يقدّر عددهم بنحو 80 عنصراً وما يقارب 30 مركبة، تجمع وادي السيق، وكان من بين المقتحمين من يرتدي الزي العسكري وآخرون بلباس مدني. ووجّهت القوات تهديدات صريحة باستخدام العنف، ومنحت السكان مهلة لا تتجاوز الساعة لإخلاء التجمع. وعلى إثر ذلك، اضطر السكان إلى الفرار سيراً على الأقدام باتجاه القرى المجاورة بحثاً عن مأوى آمن. وفي اليوم ذاته، اعتقلت قوات الاحتلال ثلاثة شبان، اثنان من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وثالث من أبناء التجمع، واحتجزتهم من الساعة 12:30 ظهراً حتى السادسة مساءً، ولم يفرج عنهم إلا بعد تدخل منسّق من ممثلين فلسطينيين وإسرائيليين، إلى جانب طواقم الإسعاف، بحسب ما وثقته مؤسسة الحق.
تحديد الموقع الجغرافي للهجوم على مدرسة وادي السِّيق الابتدائية في أكتوبر 2023.
المصدر: مؤسسة الحق 2025
قوبلت جهود السلطات الفلسطينية لتأمين عودة فورية للسكان من أجل استرجاع ممتلكاتهم برفض قاطع من قبل السلطات الإسرائيلية. وبعد ثمانية أيام من التنسيق المتواصل، سمح للسكان بالعودة تحت حراسة عسكرية مشددة، ليصدموا عند وصولهم بحجم الدمار الشامل الذي طال تجمعهم. فقد سوّيت منازلهم بالأرض، وتعرّضت المواد الغذائية وخزانات المياه والألواح الشمسية وحتى مواشيهم للسرقة أو التدمير المتعمد. كما تم إغلاق الطريق الرئيسي المؤدي إلى التجمع ونصبت كاميرات مراقبة عند المدخل، في مؤشر واضح على استكمال عملية المحو الممنهج للمكان.
التحليل القانوني
يقوم النظام الصهيوني الاستيطاني الاستعماري الذي تنتهجه دولة الاحتلال على منطق الإقصاء الشامل للشعب الفلسطيني الأصلي، واستبداله بمستوطنين إسرائيليين. ولتحقيق هذا الغرض، تعتمد دولة الاحتلال على منظومة من السياسات والأدوات التي تهدف إلى سلب الفلسطينيين/ات أراضيهم وتهجيرهم قسراً، من بينها فرض بيئة قسرية يُمارس فيها الاضطهاد المنهجي، وتوسيع رقعة المستوطنات والبؤر الاستيطانية، وتوفير الحماية القانونية والأمنية للمستوطنين العنيفين. وقد أصبح العنف الاستيطاني أداة مركزية ضمن هذا المشروع، باعتباره سياسة ممنهجة تدعمها الدولة وتغذيها مستويات رسمية عليا، من خلال تسليح المستوطنين، وتأمين غطاء عسكري من قوات الاحتلال، مع غياب تام للمساءلة القضائية. وبهذا، يُسهم هذا العنف في طرد الفلسطينيين من أراضيهم وتجريدهم من وسائل عيشهم وحرمانهم من السيطرة على مواردهم.
ويشكّل استعمار الأرض الفلسطينية، ولا سيّما عبر نقل القوة القائمة بالاحتلال لسكانها المدنيين إلى الأرض المحتلة، جوهر سياسات الاحتلال، وهو ما يعد انتهاكاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة، وجريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وتشكل اعتداءات المستوطنين امتداداً مباشراً لهذه السياسات، كونها نتاجاً لعملية إحلال سكاني منظمة. كما أن الطابع الواسع والمنهجي للهجمات الموجهة ضد الفلسطينيين قد يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية، بما يشمل الترحيل أو النقل القسري والاضطهاد والفصل العنصري، بحسب ما نص عليه نظام روما الأساسي. وقد أكدت محكمة العدل الدولية، في رأيها الاستشاري الصادر عام 2024، أن على دولة الاحتلال التوقف الفوري عن جميع أنشطة الاستيطان الجديدة، والعمل على إجلاء المستوطنين من الأرض الفلسطينية المحتلة.
وفي السياق ذاته، تثير مصادقة وزير الطاقة الإسرائيلي على مشاريع الطاقة في الضفة الغربية المحتلة مخاوف جدّية، حيث تعكس التوسع التدريجي في الصلاحيات المدنية والإدارية التي تمارسها دولة الاحتلال داخل الأرض المحتلة، بما يمثّل دليلاً إضافياً على سياسة الضم الزاحف. ويعد هذا السلوك عدواناً غير مشروع بموجب القانون الدولي، وانتهاكًا صارخًا للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، فضلاً عن كونه انتهاكاً خطيراً للحق الثابت وغير القابل للتصرف للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والسيادة على أرضه وموارده الطبيعية.
خاتمة: المحو بوصفه أداة استراتيجية في المشروع الاستيطاني
يشكّل التهجير القسري للتجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة جزءاً من سياسة منظمة تتبعها السلطات الإسرائيلية والمستوطنون للاستيلاء على الأرض واستغلال الموارد. ومن خلال العنف والترهيب وفرض ظروف معيشية قسرية، تجبر دولة الاحتلال الفلسطينيين على الرحيل، تمهيداً لتوسيع المستوطنات غير القانونية ودمج الضفة الغربية بمخططها الوطني للطاقة.
ما وثقناه منذ أكتوبر 2023 لا يمثّل حوادث فردية، بل يعكس مشروعاً استيطانياً استعمارياً أوسع يسعى إلى إفراغ المناطق الفلسطينية ذات الأهمية الاستراتيجية من سكانها، من خلال تكامل عنف المستوطنين مع سياسات التخطيط العنصرية. وتسهم مشاريع البنية التحتية، كخطوط الكهرباء والحقول الشمسية، في تكريس هذا الواقع، عبر توسيع النفوذ الإسرائيلي وتعميق التبعية المفروضة على الفلسطينيين.
تعدّ هذه الممارسات انتهاكاً صريحاً لأحكام القانون الدولي، وعلى وجه الخصوص اتفاقية جنيف الرابعة ونظام روما الأساسي، اللذين يحظران التهجير القسري لسكان الأرض المحتلة ونقل السكان المدنيين التابعين للقوة القائمة بالاحتلال إلى الأرض المحتلة. ويحتّم هذا الواقع ضرورة تحرك دولي عاجل لوقف هذه السياسات، وتوفير الحماية الفورية للتجمعات الفلسطينية، وضمان حق الشعب الفلسطيني الأصيل في تقرير المصير والسيادة على أرضه وموارده الطبيعية.