القائمة الرئيسية
EN
محمد الهودلي: شاهد على قرار استشهاده
الرصد والتوثيق
21، أبريل 2013

هديل حنيطي - باحثة ميدانية - مؤسسة الحق

hudaly-familyفي الثامنة ليلاً من يوم الجمعة 16/3/2013، أطبق الحزن على بيت خالد إبراهيم هودلي الواقع في حي الطيرة في مدينة رام الله. حالة من الهلع والرهبة دبت في نفوس الأم والأب والإخوة والأخوات، عقب اتصال هاتفي تلقاه الوالد من الرقم(0502790763). المتصل الذي يتقن اللغة العربية عرف بنفسه بأنه سائق إسعاف، وأبلغ الوالد بأن ابنه محمد البالغ من العمر 19عام، استشهد عقب مواجهات دارت في المسجد الأقصى بين جنود الاحتلال والمصلين، وأنه نقل جثمان محمد إلى مستشفى هداسا في القدس، وينتظر منهم الإذن لاستلام الجثة.

أغلق الوالد سماعة الهاتف مردداً "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وبالكاد استطاع حبس دموعه، فيما انهارت الوالدة التي كانت تجلس بالقرب من زوجها من وقع الخبر. ارتعش بدنها وتشنجت أطرافها من هول الصدمة. هي الثكلى بفاجعة فقدان ابنها خانتها قواها ولم تعد قدماها تحملانها، ما استدعى نقلها إلى المستشفى للعلاج. وخلال ذلك أخذ نبأ استشهاد محمد ينتشر عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وبدأت الأسرة تتلقى التعازي باستشهاد محمد من الأهل والأصدقاء والمعارف.

من جهته، انهمك خالد بإجراء اتصالات هاتفية بجهات فلسطينية رسمية متعددة منها الارتباط الفلسطيني، والأجهزة الأمنية الفلسطينية وكذلك محافظة رام الله، وسائقي إسعاف فلسطينيين، للتنسيق مع سلطات الاحتلال وترتيب نقل الجثمان إلى رام الله، إلا أن الردود التي تلقاها منهم أربكته كثيراً. فتارة كانوا يؤكدون له نبأ استشهاد محمد، وتارة ينفون الخبر مؤكدين بأن محمد يرقد في مستشفى هداسا في القدس وتحديداً في غرفة رقم( 04 ) في حالة من الخطر الشديد. وعليه عاود خالد الاتصال بسائق الإسعاف الذي أبلغه بالخبر محاولاً الاستيضاح منه إلا أن هاتفه كان خارج الخدمة.

مضى يومان على غياب محمد، وكان لوقع الانتظار والترقب لمعلومة تفيد بمصيره أقسى على الأسرة من نبأ استشهاد ابنهم. ووحدها المسكنات كانت تسعف قلب الأم الملكومة بغياب ابنها، بعد ذهابه إلى القدس عصر الخميس 15/3/2013 للصلاة في المسجد الأقصى.

عند الخامسة صباحا من يوم الأحد 18/3/2013، أبواب المنزل لم تكن موصدة، عبر محمد الى البيت، فهللت أخته الصغيرة دعاء ذات الثماني سنوات أرجاء البيت فرحاً برؤيته، فتجمع أفراد العائلة حوله. ولكن محمد الذي أنهكه التعب والإرهاق، كان وجهه مصفراً وبالكاد يستطيع الوقوف على قدميه، هو الذي بدا على اطلاع بما يدور في البيت غمرته السكينة لوجوده بين أفراد أسرته ولم يكن يرغب بالحديث.

في ساحة بدت له مركز للجيش، كانت دقات الساعة تسير بوتيرة مغايرة. الزمان والمكان مجهولان بالنسبة له، والمصير يكتنفه الغموض. يجلس محمد مقيداً إلى حائط أحد المباني بظروف لا تليق بآدميته. إحدى يديه مقيدة بقضيب من الحديد يبرز من الحائط، والأخرى طليقة. الوقت يمر ببطء والتعب والإرهاق والجوع أضنيا جسد الشاب الفتي الملقى في الساحة منذ الليلة الماضية. عند الساعة الثامنة ليلاً وبينما كان الجنود يتجولون في الساحة. أطل جندي ذو بشرة سمراء يتحدث العربية بطلاقة، هذا الجندي ذو البزة العسكرية الخضراء- جيش نظامي- كان مألوفاً لمحمد فقد تردد كثيراً عليه منذ اقتياده إلى القاعدة، وسأله عدة مرات عن سبب دخوله إلى القدس، وبدا بهيئته وبطريقته بالاستجواب أنه ضابط أو رجل مخابرات. أطل الجندي وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مكر. تقدم نحو محمد واستطرد قائلاً: "لقد أتيتَ إلينا بقدميك"، وأضاف "الأحرى أن تكون كنيتك محمد وليد فؤاد خالد الهودلي". لم يفهم محمد المغزى ولكن وليد وفؤاد هما عَماه، وخالد والده وقد اعتقلوا في سجون الاحتلال الإسرائيلي لسنوات طويلة في السابق فهل يعرفهم هذا الضابط؟ تساءل محمد.

ابتعد الجندي عدة أمتار وأجرى اتصالاً، سمعه محمد يطلب من الطرف الأخر رقم خالد الهودلي. بإغلاقه للخط وعلى مسمع من محمد نقر على هاتفه مجرياً اتصالاً آخر وفتح مكبر الصوت، ادعى حينها أنه سائق إسعاف وأخبر الوالد بنبأ استشهاد محمد واضعا محمد ووالده أمام مفترق حاسم.

يقول محمد: "حينها شعرت بالضيق الشديد أردت الصراخ كي يسمعني والدي، ولكن خوفي من انتقام الجندي حبس صوتي بداخلي". فهذا الجندي لم يكف عن تهديده بالقتل منذ وصوله إلى المكان. بعد انتهاء المكالمة، أومأ الجندي بيده نحو محمد متوعداً وغادر المكان. وبين فترة وأخرى كان يعود إليه ويطلعه على وقع الخبر على الأسرة والتحضيرات التي يجرونها لمراسم جنازته في رام الله. مع تهديده بالقتل مؤكداً بأن لا أحد في الكون يمكن له أن يعرف مكان احتجازه.

بقي محمد طريد هواجسه وقلقه على عائلته من جهة، وشعوره باليأس والخوف من المصير الذي يتهدده من جهة أخرى، فهو لم يكن يتوقع ما يضمره الضابط له، هل يخطط لقتله بالفعل، والى متى سيبقى مقيداً في هذه الساحة، دماغه كاد ينفجر من فرط هواجسه، حتى أن ذلك أنساه شعوره بالجوع والإرهاق والتعب. إذ أنهم لم يقدموا له سوى بيضة منذ إلقاء القبض عليه عصر يوم الخميس 15/3/2013، كذلك فإنهم لا يضعونه في السجن أسوة بالمعتقلين، ولم يستجوبوه في مكتب تحقيق ولم يزره المحامي ولم يعرض على قاض للمحاكمة. الوقت ما يزال يمر بطيئاً والجو بارد جداً في الليل، والهواجس تطحن رأسه.

فجر الأحد 17/3/2013 تقدم نحوه بعض الجنود وفكوا قيده واستبدلوه بقيود بلاستيكية، وضعوه في جيب عسكري وساروا به دون أن يوضحوا له الوجهة. حالة من الرعب تملكته في الأثناء، سار بهم الجيب نصف ساعة تقريبا، حتى توقف بالقرب من حاجز قلنديا جنوب رام الله وهناك فك الجنود قيوده وتركوه بالقرب من الحاجز بعد أن هددوه بالقتل في حال حاول الدخول إلى القدس مرة أخرى.

يستدرك محمد ما جرى بالقول: لطالما تطلعت لزيارة المسجد الأقصى للصلاة، ولكن الاحتلال يعزل القدس بالجدار والحواجز، واجتياز أي من تلك الحواجز يتطلب مني الحصول على تصريح خاص تفرضه سلطات الاحتلال، وفي كل مرة أتقدم فيها بطلب للحصول على تصريح من الارتباط الإسرائيلي يتم مقابلة طلبي بالرفض لأسباب أمنية وفق ادعائهم. أخيرا قررت تسلق الجدار للصلاة في الأقصى. اعتقدت انه في أسوأ الظروف سيفرضون علي غرامة مالية، أو يكتفون بإرجاعي في حال أمسكوا بي، فلا هدف لي سوى العبادة وليس لدي ما أخشى منه، ولكنني عوقبت بالضرب المبرح عندما أمسك الجنود بي وأرعبوا عائلتي بادعائهم استشهادي.

ويكمل: ما أن تسلقت مقطع من الجدار المقام حول القدس، حتى فوجئت بالجنود يكمنون لي في المكان، حاولت الهروب منهم، إلا أنهم أطلقوا قنابل الغاز المسيل للدموع باتجاهي بكثافة، حتى شعرت بالاختناق ولم أعد قادراً على السير. فوقفت في مكاني وتجمع الجنود حولي، ومن ثم طرحوني أرضاً، وداس أحدهم على رأسي بحذائه وثبتني بالأرض، فيما انهال الجنود عليَ بالضرب المبرح بأعقاب بنادقهم وبأيديهم وبأرجلهم بصورة عشوائية، حتى أنهكوا جسدي بعدها قيدوني ونقلوني إلى تلك الساحة. خلال ذلك ادخلوه الى غرفة داخل أحد المباني وفتشوه تفتيشاً عارياً ومن ثم أعادوه الى الساحة. ولم يبرحها إلا لساعات معدودة عند حلول الفجر.

محمد هودلي وعائلته كانوا ضحية جديدة لتعسف الاحتلال المتواصل، ففي الوقت الذي تستخدم فيه سلطات الاحتلال التصاريح سياسية لحرمان الفلسطينين من الدخول الى مدينة القدس والحد من التواجد الفلسطيني فيها، يقوم الاحتلال بمعاقبة المواطنين الفلسطينين في حال تم الإمساك بهم في القدس بدون تصريح، ويخضعونهم لظروف احتجاز تعسفية وغير إنسانية تتمثل بالترهيب النفسي، الضرب المبرح، تقييد أيديهم بقيود بلاستيكية وتعصيب أعينهم، عدم تعريفهم بأماكن احتجازهم، وحرمانهم من الطعام والنوم وتهديدهم بالقتل. واضعة بينهم وبين المدينة حاجزاً نفسيا آخر يضاف الى العوائق المادية والحواجز العسكرية التي باتت تطوق المدينة.